فصل: 252- باب في مسائل من الدعاء:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تطريز رياض الصالحين



.251- باب فضل الدعاء بظهر الغيب:

قَالَ الله تَعَالَى: {والَّذِينَ جَاءوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ولإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بالإيمَانِ} [الحشر: 10].
لما ذكر الله تعالى السابقين من المهاجرين والأنصار، أثنى على التابعين منهم بإحسان، بدعائهم للمؤمنين الغائبين عنهم حال الدعاء.
وقال تَعَالَى: {واسْتَغْفِرْ لِذنْبِكَ وَلِلْمُؤمِنِينَ والمؤْمِنَاتِ} [محمد: 19].
أَمَرَهُ الله تعالى بالاستغفار للجميع منهم الحاضرين والغائبين.
وقال تَعَالَى إخْبَارًا عَن إبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم: {رَبَّنا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤمِنِينَ يَومَ يَقُومُ الحِسَابُ} [إبراهيم: 41].
كان استغفاره لأبيه أولًا كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 114].
1494- وعن أَبي الدرداء رضي الله عنه: أنَّه سَمِعَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلمٍ يدعُو لأَخِيهِ بِظَهْرِ الغَيْبِ إِلا قَالَ المَلَكُ: وَلَكَ بِمِثْلٍ». رواه مسلم.
1495- وعنه أنَّ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يقول: «دَعْوَةُ المَرْءِ المُسْلِمِ لأَخيهِ بِظَهْرِ الغَيْبِ مُسْتَجَابَةٌ، عِنْدَ رَأسِهِ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ كُلَّمَا دَعَا لأَخِيهِ بِخَيْرٍ قَالَ المَلَكُ المُوَكَّلُ بِهِ: آمِينَ، وَلَكَ بِمِثْلٍ». رواه مسلم.
في هذا الحديث: فضل الدعاء للمسلم بظهر الغيب، وأنه يحصل للداعي مثلها، وأن دعوته لا ترد، وكان بعض السلف إذا أراد أن يدعوا لنفسه دعا لأخيه المسلم بتلك الدعوة.

.252- باب في مسائل من الدعاء:

1496- وعن أسَامة بن زيد رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صُنِعَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ، فَقَالَ لِفاعِلهِ: جَزَاكَ اللهُ خَيرًا، فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ». رواه الترمذي، وقال: (حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ).
فيه: مشروعية الدعاء لمن فعل المعروف حسِّيًّا أو معنويًّا.
1497- وعن جابر رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ؛ وَلا تَدعُوا عَلَى أوْلادِكُمْ، وَلا تَدْعُوا عَلَى أموَالِكُمْ، لا تُوافِقُوا مِنَ اللهِ سَاعَةً يُسألُ فِيهَا عَطَاءً فَيَسْتَجِيبَ لَكُمْ». رواه مسلم.
فيه: النهي عن الدعاء على من ذُكِر، لئلا يوافقوا ساعة استجابة فيستجاب.
1498- وعن أَبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أقْرَبُ مَا يكونُ العَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأكْثِرُوا الدُّعَاءَ». رواه مسلم.
فيه: الندب إلى كثرة الدعاء في السجود، كما في الحديث الآخر: «وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فَقَمِنٌ أنْ يستجاب لكم».
1499- وعنه أنَّ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يُسْتَجَابُ لأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ: يقُولُ: قَدْ دَعْوتُ رَبِّي، فَلَمْ يسْتَجب لِي». متفق عَلَيْهِ.
وفي روايةٍ لمسلمٍ: «لا يَزالُ يُسْتَجَابُ لِلعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بإثْمٍ، أَوْ قَطيعَةِ رحِمٍ، مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ» قيل: يَا رسولَ اللهِ مَا الاستعجال؟ قَالَ: «يقول: قَدْ دَعوْتُ، وَقَدْ دَعَوْتُ، فَلَمْ أرَ يسْتَجِيبُ لي، فَيَسْتحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ».
الاستحسار: الإعياء، والله سبحانه يجيب دعوة الداع إذا دعاه، فأما أن يعجلها في الدنيا، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها.
وقال ابن جريج: إنَّ دعوة موسى وهارون على فرعون لم تظهر إجابتها إلا بعد أربعين سنة.
1500- وعن أَبي أمامة رضي الله عنه قَالَ: قيل لِرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أيُّ الدُّعاءِ أَسْمَعُ؟ قَالَ: «جَوْفَ اللَّيْلِ الآخِرِ، وَدُبُرَ الصَّلَواتِ المَكْتُوباتِ». رواه الترمذي، وقال: (حَدِيثٌ حَسَنٌ).
إنما كان جوف الليل أقرب للإجابة لكمال التوجُّه، وفقد العلائق والعوائق، وكذلك إدبار الصلوات؛ لأن الصلاة مناجاة العبد لربه، ومحل مسألته من فضله، وبعد تمام العمل، يظهر الأمل.
1501- وعن عُبَادَةَ بنِ الصامت رضي الله عنه أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا عَلَى الأرْضِ مُسْلِمٌ يَدْعُو الله تَعَالَى بِدَعْوَةٍ إِلا آتَاهُ اللهُ إيَّاها، أَوْ صَرفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا، مَا لَمْ يَدْعُ بإثْمٍ، أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ»، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَومِ: إِذًا نُكْثِرُ قَالَ: «اللهُ أكْثَرُ». رواه الترمذي، وقال: (حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ).
ورواه الحاكم من روايةِ أَبي سعيدٍ وزاد فِيهِ: «أَوْ يَدخِرَ لَهُ مِن الأَجْرِ مثْلَها».
فيه: استحباب كثرة الدعاء، وانتظار الإجابة واحتساب ذلك.
1502- وعن ابنِ عباس رضي الله عنهما: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يقولُ عِنْدَ الكَرْبِ: «لا إلهَ إِلا اللهُ العَظِيمُ الحَليمُ، لا إلهَ إِلا اللهُ رَبُّ العَرْشِ العَظيمِ، لا إلهَ إِلا اللهُ رَبُّ السَّمَاواتِ، وَرَبُّ الأَرْضِ، وَرَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ». متفق عَلَيْهِ.
في هذا الحديث: إن الدواء من الكرب توحيد الله عز وجل، وعدم النظر إلى غيره أصلًا.
قال ابن بطال: حدثني أبو بكر الرازي، قال: كنت بأصبهان عند أبي نعيم أكتب الحديث عنه، وهناك شيخ يقال له: أبو بكر بن علي، عليه مدار الفتيا فَسُعِيَ به عند السلطان فحبسه، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وجبريل عليه السلام عن يمينه يحرك شفتيه بالتسبيح لا يفتر، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: قل: لأبي بكر بن علي يدعو بدعاء الكرب الذي في (صحيح البخاري) حتى يفرج الله عنه. قال: فأصبحت فأخبرته فدعا به، فلم يكن إلا قليلًا حتى أخرج من السجن.
وقال الحسن البصري: أرسل إليَّ الحجاج فقلتهن، فقال: والله ما أرسلت إليك إلا وأنا أريد أنْ أقتلك، فلأنت اليوم أحب من كذا وكذا، فسل حاجتك.
قال العيني: اشتملت الجملة الأولى على التوحيد الذي هو أصل التنزيهات، وعلى العظمة التي تدل على القدرة العظيمة.
وحكمة تخصيص الحليم بالذكر، أنّ كرب المؤمن غالبًا إنما هو نوع من التقصير في الطاعات، أو غفلة في الحالات، وهذا يشعر برجاء العفو المقلل للحزن.
واشتملت الجملة الثانية على التوحيد، والربوبية، وعظم العرش.
ووجه تكرير الرب بالذكر من بين سائر الأسماء الحسنى، هو كونه مناسبًا لكشف الكرب الذي هو مقتضى التربية.
ووجه تخصيص العرش بالذكر، كونه أعظم أجسام العالم، فيدخل الجميع تحته دخول الأدنى تحت الأعلى.
وخص السموات والأرض بالذكر؛ لأنهما من أعظم المشاهدات. انتهى. ملخصًا.

.253- باب كرامات الأولياء وفضلهم:

قَالَ الله تَعَالَى: {ألا إنَّ أوْلِيَاءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ البُشْرَى في الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله ذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ} [يونس: 62- 64].
الكرامة: إحدى الخوارق للعادات، والولي هو المطيع لله، فكل من كان تقيًّا كان لله وليًّا.
قال ابن عباس وغيره: أولياء الله الذين إذا رُؤُا ذُكِرَ الله.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ من عباد الله عبادًا يغبطهم الأنبياء والشهداء». قيل: من هم يَا رسول الله، لعلَّنا نحبهم؟ قال: «هم قوم تحابّوا في الله من غير أموال ولا أنساب، وجوههم نور على منابر من نور لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس». ثم قرأ: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62]، رواه ابن جرير وغيره.
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [يونس: 64]، قال: «الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرى له». رواه أحمد.
وقد قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} [فصلت: 30: 32].
وقوله تعالى: {لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ} [يونس: 64]، أي: لا تغيير لقوله، ولا خلف لوعده، {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس: 64].
وقال تَعَالَى: {وَهُزِّي إلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا} [مريم: 25، 26].
هذا من خوارق العادة، وهي كرامة لمريم عليها السلام، وأشار بقوله {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} [مريم: 29، 30] إلى تكلم عيسى ومخاطبته لقومها، ومحاورته عنها، من ولادته إرهاصًا لنبوته، وكرامةً لها.
وقال تَعَالَى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكرِيّا المِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قالت هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37].
قيل: كان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء. في قصة مريم عدة كرامات، منها: حبلها من غير ذَكَر، وحصول الرطب الطري من الجذع اليابس، ودخول الرزق عندها في غير أوان حضور أسبابه، وهي لم تكن نبية.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَإذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا اللهَ فَأْوُوا إِلَى الكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّيءْ لَكُمْ مِنْ أمْرِكُمْ مِرْفَقًا * وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ اليَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ} [الكهف: 16، 17].
قال بعض المفسرين: صرف الله عنهم الشمس بقدرته، وحال بينهم وبينها؛ لأنَّ باب الكهف على جانب لا تقع الشمس إلا على جنبه، فيكون كرامة لهم كما قال: ذلك من آيات الله إذا أرشدهم إلى ذلك الغار، وصرف عنهم الأضرار.
وفي لبثهم ثلاثمائة وأزيد، نيامًا أحياء من غير آفة، مع بقاء القوة العادية بلا غذاء ولا شراب من جملة الخوارق.
1503- وعن أَبي محمد عبد الرحمن بن أَبي بكرٍ الصديق رضي الله عنهما: أنَّ أَصْحَابَ الصُّفّةِ كَانُوا أُنَاسًا فُقَرَاءَ وَأَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَرَّةً: «مَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ اثْنَيْنِ، فَلْيَذْهَبْ بثَالِثٍ، وَمنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ أرْبَعَةٍ، فَلْيَذْهَبْ بِخَامِسٍ بِسَادِسٍ» أَوْ كما قَالَ، وأنَّ أَبَا بكرٍ رضي الله عنه جَاءَ بِثَلاَثَةٍ، وانْطَلَقَ النبيّ صلى الله عليه وسلم بعَشَرَةٍ، وأنَّ أَبَا بَكرٍ تَعَشَّى عِنْدَ النبي صلى الله عليه وسلم ثُمَّ لَبِثَ حَتَّى صَلَّى العِشَاءَ، ثُمَّ رَجَعَ، فجاءَ بَعْدَ مَا مَضَى مِنَ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللهُ. قالت له امْرَأتُهُ: مَا حَبَسَكَ عَنْ أضْيَافِكَ؟ قَالَ: أوَ ما عَشَّيْتِهمْ؟ قالت: أَبَوْا حَتَّى تَجِيءَ وَقَدْ عَرَضُوا عَلَيْهِمْ، قَالَ: فَذَهَبتُ أَنَا فَاخْتَبَأْتُ، فَقالَ: يَا غُنْثَرُ، فَجَدَّعَ وَسَبَّ، وقالَ: كُلُوا لا هَنِيئًا وَاللهِ لا أَطْعَمُهُ أَبَدًا، قَالَ: وايْمُ اللهِ مَا كُنَّا نَأخُذُ مِنْ لُقْمَةٍ إلا ربا من أسفلِها أكثرَ منها حتى شبعوا، وصارتْ أكثرَ مما كانتْ قبلَ ذلكَ، فنظرَ إليها أبو بكر فقالَ لامرأتِهِ: يا أختَ بني فراسٍ ما هذا؟ قالت: لا وقُرَّةِ عيني لهي الآنَ أكثرُ منها قبلَ ذلكَ بثلاثِ مراتٍ! فأكل منها أبو بكرٍ وقال: إنَّما كانَ ذلكَ من الشيطانِ، يعني: يمينَهُ. ثم أكلَ منها لقمةً، ثُمَّ حَمَلَهَا إِلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَصْبَحَتْ عِنْدَهُ. وَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ، فَمَضَى الأجَلُ، فَتَفَرَّقْنَا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، مَعَ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أُنَاسٌ، اللهُ أعْلَمُ كَمْ مَعَ كُلِّ رَجُلٍ فَأَكَلُوا مِنْهَا أَجْمَعُونَ.
وَفِي رِوَايةٍ: فَحَلَفَ أَبُو بَكْرٍ لا يَطْعَمُهُ، فَحَلَفَت المَرْأَةُ لا تَطْعَمُهُ، فَحَلَفَ الضَّيْفُ.- أَو الأَضْيَافُ- أنْ لا يَطْعَمُهُ أَوْ يَطْعَمُوهُ حَتَّى يَطْعَمَهُ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هذِهِ مِنَ الشَّيْطَانِ! فَدَعَا بالطَّعَامِ فَأكَلَ وأكَلُوا، فَجَعَلُوا لا يَرْفَعُونَ لُقْمَةً إِلا رَبَتْ مِنْ أسْفَلِهَا أَكْثَرُ مِنْهَا، فَقَالَ: يَا أُخْتَ بَني فِرَاسٍ، مَا هَذَا؟ فَقَالَتْ: وَقُرْةِ عَيْنِي إنَّهَا الآنَ لأَكْثَرُ مِنْهَا قَبْلَ أنْ نَأكُلَ، فَأكَلُوا، وَبَعَثَ بِهَا إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ أنَّهُ أكَلَ مِنْهَا.
وَفِي رِوايَةٍ: إنَّ أَبَا بكْرٍ قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمنِ: دُونَكَ أضْيَافَكَ، فَإنِّي مُنْطلقٌ إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم فَافْرُغْ مِنْ قِراهُم قَبْلَ أنْ أَجِيءَ، فَانْطَلَقَ عَبْدُ الرَّحْمنِ، فَأَتَاهُمْ بما عِنْدَهُ، فَقَالَ: اطْعَمُوا؛ فقالوا: أين رَبُّ مَنْزِلِنا؟ قَالَ: اطْعَمُوا، قالوا: مَا نحنُ بِآكِلِينَ حَتَّى يَجِيءَ رَبُّ مَنْزِلِنَا، قَالَ: اقْبَلُوا عَنْا قِرَاكُمْ، فَإنَّهُ إنْ جَاءَ وَلَمْ تَطْعَمُوا، لَنَلْقَيَنَّ مِنْهُ فأبَوْا، فَعَرَفْتُ أنَّهُ يَجِدُ عَلَيَّ، فَلَمَّا جَاءَ تَنَحَّيْتُ عَنْهُ، فَقَالَ: مَا صَنَعْتُمْ؟ فَأخْبَرُوهُ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ الرَّحمنِ، فَسَكَتُّ: ثُمَّ قَالَ: يَا عَبْدَ الرَّحْمنِ، فَسَكَتُّ، فَقال: يَا غُنْثَرُ أقْسَمْتُ عَلَيْكَ إنْ كُنْتَ تَسْمَعُ صَوتِي لَمَا جِئْتَ! فَخَرَجْتُ، فَقُلْتُ: سَلْ أضْيَافَكَ، فقالُوا: صَدَقَ، أتَانَا بِهِ، فَقَالَ: إنَّمَا انْتَظَرْتُمُونِي والله لا أَطْعَمُهُ اللَّيْلَةَ. فَقَالَ الآخَرُونَ: واللهِ لا نَطْعَمُهُ حَتَّى تَطْعَمَهُ فَقَالَ: وَيْلَكُمْ مَا لَكُمْ لا تَقْبَلُونَ عَنَّا قِرَاكُمْ؟ هَاتِ طَعَامَكَ، فَجَاءَ بِهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ فَقَالَ: بِسْمِ اللهِ، الأولَى مِنَ الشَّيْطَانِ، فَأَكَلَ وَأَكَلُوا. متفق عَلَيْهِ.
قَوْله: «غُنْثَرُ» بغينٍ معجمةٍ مَضمُومَةٍ ثُمَّ نُونٍ ساكِنَةٍ ثُمَّ ثاءٍ مثلثةٍ وَهُوَ: الغَبِيُّ الجَاهِلُ. وقولُهُ: «فَجَدَّعَ» أَيْ شَتَمَهُ، والجَدْعُ القَطْعُ. قولُه «يَجِدُ عَليّ» هُوَ بكسرِ الجِيمِ: أيْ يَغْضَبُ.
في هذا الحديث: كرامة ظاهرة لأبي بكر رضي الله عنه.
1504- وعن أَبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ كَانَ فيما قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ نَاسٌ مُحَدَّثُونَ، فَإنْ يَكُ في أُمَّتِي أحدٌ فإنَّهُ عُمَرُ». رواه البخاري.
ورواه مسلم من رواية عائشة.
وفي روايتهما قَالَ ابن وهب: «محَدَّثُونَ» أيْ مُلْهَمُونَ.
المُحْدَّث: الرجل الصادق الظن، وهو مَنْ أُلْقي في روعه شيء من قبل الملأ الأعلى. وعند الترمذي: «إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه».
وفي حديث آخر: «لو كان نبي بعدي لكان عمر».
وفي هذا الحديث: كرامة ظاهرة لعمر رضي الله عنه.
وعن ابن عمر قال: بينا عثمان يخطب إذ قام إليه جهجاه الغفاري، فأخذ العصا من يده فكسرها على ركبته، فدخلت شظية في ركبته، فوقعت فيها الأكلة.
وعن الحسن بن علي قال: قال علي: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح ظهري الليلة في منامي، فقلت يا رسول الله: ما لقيت من أمتك من الأود واللدد؟ قال: «ادع عليهم». قلت: اللهم أبدلني بهم من هو خير لي منهم، وأبدلهم بي من هو شر مني. فخرج فضربه الرجل. رواهما ابن سيد الناس.
ففي هذين كرامة للخليفتين رضي الله عنهما.
1505- وعن جابر بنِ سُمْرَةَ رضي الله عنهما، قَالَ: شَكَا أهْلُ الكُوفَةِ سَعْدًا يعني: ابنَ أَبي وقاص رضي الله عنه، إِلَى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فَعَزَلَهُ، واسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَمَّارًا، فَشَكَوا حَتَّى ذَكَرُوا أنَّهُ لا يُحْسِنُ يُصَلِّي، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا أَبَا إسْحَاقَ، إنَّ هَؤُلاَءِ يَزْعَمُونَ أنَّكَ لا تُحْسِنُ تُصَلِّي، فَقَالَ: أَمَّا أنا واللهِ فَإنِّي كُنْتُ أُصَلِّي بِهِمْ صَلاَةَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لا أُخْرِمُ عَنْها، أُصَلِّي صَلاَةَ العِشَاءِ فَأَرْكُدُ فِي الأُولَيَيْنِ، وَأُخِفُّ في الأُخْرَيَيْنِ.
قَالَ: ذَلِكَ الظَّنُّ بِكَ يَا أَبَا إسْحَاقَ، وأَرْسَلَ مَعَهُ رَجُلًا- أَوْ رِجَالًا- إِلَى الكُوفَةِ يَسْأَلُ عَنْهُ أهْلَ الكُوفَةِ، فَلَمْ يَدَعْ مَسْجِدًا إِلا سَأَلَ عَنْهُ، وَيُثْنُونَ مَعْرُوفًا، حَتَّى دَخَلَ مَسْجِدًا لِبَنِي عَبْسٍ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، يُقالُ لَهُ أُسَامَةُ بْنُ قَتَادَةَ، يُكَنَّى أَبَا سَعْدَةَ، فَقال: أمَا إذْ نَشَدْتَنَا فَإنَّ سَعْدًا كَانَ لا يَسِيرُ بالسَّرِيَّةِ وَلا يَقْسِمُ بالسَّوِيَّةِ، وَلا يَعْدِلُ في القَضِيَّةِ. قَالَ سَعْدٌ: أمَا وَاللهِ لأَدْعُونَّ بِثَلاَثٍ: اللَّهُمَّ إنْ كَانَ عَبْدُكَ هَذَا كَاذِبًا قَامَ رِيَاءً وَسُمْعَةً، فَأَطِلْ عُمُرَهُ، وَأَطِلْ فَقْرَهُ، وَعَرِّضْهُ لِلْفِتَنِ. وَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا سُئِلَ يَقُولُ: شَيْخٌ كَبيرٌ مَفْتُونٌ، أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعْدٍ.
قَالَ عَبدُ الملكِ بن عُمَيْرٍ الراوي عن جابرِ بنِ سَمُرَةَ: فَأنا رَأَيْتُهُ بَعْدُ قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ مِنَ الكِبَرِ، وإنَّهُ لَيَتَعَرَّضُ لِلْجَوارِي فِي الطُّرُقِ فَيَغْمِزُهُنَّ. متفق عَلَيْهِ.
في هذا الحديث: كرامة ظاهرة لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
1506- وعن عروة بن الزبير: أنَّ سعيد بن زيد بن عمرو بن نُفَيلٍ رضي الله عنه خَاصَمَتْهُ أَرْوَى بِنْتُ أوْسٍ إِلَى مَرْوَانَ بْنِ الحَكَمِ، وادَّعَتْ أنَّهُ أخَذَ شَيْئًا مِنْ أرْضِهَا، فَقَالَ سعيدٌ: أنا كُنْتُ آخُذُ شَيئًا مِنْ أرْضِهَا بَعْدَ الَّذِي سَمِعْتُ مِنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟! قَالَ: مَاذَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم ؟ قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ أخَذَ شِبْرًا مِنَ الأرْضِ ظُلْمًا، طُوِّقَهُ إِلَى سَبْعِ أرْضِينَ» فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ: لا أسْألُكَ بَيِّنَةً بَعْدَ هَذَا، فَقَالَ سعيد: اللَّهُمَّ إنْ كَانَتْ كاذِبَةً، فَأعْمِ بَصَرَها، وَاقْتُلْهَا في أرْضِها، قَالَ: فَما ماتَتْ حَتَّى ذَهَبَ بَصَرُهَا، وَبَيْنَما هِيَ تَمْشِي في أرْضِهَا إذ وَقَعَتْ في حُفْرَةٍ فَماتَتْ. متفق عَلَيْهِ.
وفي روايةٍ لِمُسْلِمٍ عن محمد بن زيد بن عبد الله بن عُمَرَ بِمَعْنَاهُ، وأنه رآها عَمْيَاءَ تَلْتَمِسُ الجُدُرَ تقولُ: أصابَتْنِي دَعْوَةُ سَعيدٍ، وأنَّها مَرَّتْ عَلَى بِئرٍ في الدَّارِ الَّتي خَاصَمَتْهُ فِيهَا، فَوَقَعَتْ فِيهَا، فَكَانتْ قَبْرَها.
في هذا الحديث: كرامة ظاهرة لسعيد بن زيد رضي الله عنه.
1507- وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ أُحُدٌ دعَانِي أَبي من اللَّيلِ فَقَالَ: مَا أُرَاني إِلا مَقْتُولًا في أوْلِ مَنْ يُقْتَلُ من أصْحَابِ النبي صلى الله عليه وسلم وإنِّي لا أَتْرُكُ بَعْدِي أَعَزَّ عَلَيَّ مِنْكَ غَيْرَ نَفْسِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنَّ عَلَيَّ دَيْنًا فَاقْضِ، وَاسْتَوْصِ بِأَخَوَاتِكَ خَيْرًا، فَأصْبَحْنَا، فَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ، وَدَفَنْتُ مَعَهُ آخَرَ في قَبْرِهِ، ثُمَّ لَمْ تَطِبْ نَفْسِي أنْ أتْرُكَهُ مَعَ آخَرَ، فَاسْتَخْرَجْتُهُ بَعْدَ سِتَّةِ أشْهُرٍ، فإذا هُوَ كَيَوْمِ وَضَعْتُهُ غَيْرَ أُذنِهِ، فَجَعَلْتُهُ في قَبْرٍ عَلَى حِدَةٍ. رواه البخاري.
في هذا الحديث: كرامة ظاهرة لعبد الله أبي جابر رضي الله عنهما.
1508- وعن أنس رضي الله عنه أنَّ رجلين مِنْ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خَرَجَا مِنْ عِنْدِ النبي صلى الله عليه وسلم في لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ وَمَعَهُمَا مِثْلُ المِصْبَاحَيْنِ بَيْنَ أَيْديهِمَا. فَلَمَّا افْتَرَقَا، صَارَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَاحِدٌ حَتَّى أتَى أهْلَهُ.
رواهُ البُخاري مِنْ طُرُقٍ؛ وفي بَعْضِهَا أنَّ الرَّجُلَيْنِ أُسَيْدُ بنُ حُضير، وَعَبّادُ بنُ بِشْرٍ رضي الله عنهما.
في هذا الحديث: كرامة ظاهرة لأسيد بن حضير، وعبّاد بن بشر رضي الله عنهما.
1509- وعن أَبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عَشْرَة رَهْطٍ عَيْنًا سَرِيَّة، وأمَّرَ عَلَيْهَم عاصِمَ بنَ ثَابِتٍ الأنْصَارِيَّ رضي الله عنه، فانْطلقوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بالهَدْأةِ؛ بَيْنَ عُسْفَانَ وَمَكَّةَ؛ ذُكِرُوا لِحَيٍّ مِنْ هُذَيْل يُقالُ لَهُمْ: بَنُو لحيانَ، فَنَفَرُوا لَهُمْ بِقَريبٍ مِنْ مِائَةِ رَجُلٍ رَامٍ، فَاقْتَصُّوا آثَارَهُمْ، فَلَمَّا أحَسَّ بِهِمْ عَاصِمٌ وأصْحَابُهُ، لَجَؤا إِلَى مَوْضِعٍ، فَأَحاطَ بِهِمُ القَوْمُ، فَقَالُوا: انْزِلُوا فَأَعْطُوا بِأيْدِيكُمْ وَلَكُمُ العَهْدُ وَالمِيثَاقُ أنْ لا نَقْتُلَ مِنْكُمْ أحَدًا.
فَقَالَ عَاصِمُ بنُ ثَابِتٍ: أَيُّهَا القَوْمُ، أَمَّا أنا، فَلا أنْزِلُ عَلَى ذِمَّةِ كَافِرٍ: اللَّهُمَّ أَخْبِرْ عَنَّا نَبِيَّكَ صلى الله عليه وسلم فَرَمُوهُمْ بِالنّبْلِ فَقَتلُوا عَاصِمًا، وَنَزَلَ إلَيْهِمْ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ عَلَى العَهْدِ والمِيثاقِ، مِنْهُمْ خُبَيْبٌ، وَزَيدُ بنُ الدَّثِنَةِ وَرَجُلٌ آخَرُ. فَلَمَّا اسْتَمْكَنُوا مِنْهُمْ أطْلَقُوا أوْتَارَ قِسِيِّهِمْ، فَرَبطُوهُمْ بِهَا.
قَالَ الرَّجُلُ الثَّالِثُ: هَذَا أوَّلُ الغَدْرِ، واللهِ لاَ أصْحَبُكُمْ إنَّ لِي بِهؤُلاءِ أُسْوَةً، يُريدُ القَتْلَى، فَجَرُّوهُ وعَالَجُوهُ، فأبى أَنْ يَصْحَبَهُمْ، فَقَتَلُوهُ، وانْطَلَقُوا بِخُبَيبٍ، وزَيْدِ ابنِ الدَّثِنَةِ، حَتَّى بَاعُوهُما بِمَكَّةَ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ؛ فابْتَاعَ بَنُو الحارِثِ بن عامِرِ بنِ نَوْفَلِ بنِ عبدِ مَنَافٍ خُبيبًا، وكان خُبَيْبٌ هُوَ قَتَلَ الحَارِثَ يَوْمَ بَدْرٍ. فَلِبثَ خُبَيْبٌ عِنْدَهُمْ أسيرًا حَتَّى أجْمَعُوا عَلَى قَتْلِهِ، فاسْتَعَارَ مِنْ بَعْضِ بَنَاتِ الحَارثِ مُوسَى يَسْتَحِدُّ بِهَا فَأعَارَتْهُ، فَدَرَجَ بُنَيٌّ لَهَا وَهِيَ غَافِلَةٌ حَتَّى أَتَاهُ، فَوَجَدتهُ مُجْلِسَهُ عَلَى فَخْذِهِ وَالموسَى بِيَدِهِ، فَفَزِعَتْ فَزْعَةً عَرَفَهَا خُبَيْبٌ. فَقَالَ: أَتَخَشَيْنَ أن أقْتُلَهُ مَا كُنْتُ لأَفْعَلَ ذَلِكَ! قالت: واللهِ مَا رَأيْتُ أسيرًا خَيرًا مِنْ خُبَيْبٍ، فواللهِ لَقَدْ وَجَدْتُهُ يَومًا يَأكُلُ قِطْفًا مِنْ عِنَبٍ في يَدِهِ وإنَّهُ لَمُوثَقٌ بِالحَدِيدِ وَمَا بِمَكَّةَ مِنْ ثَمَرَةٍ، وَكَانَتْ تَقُولُ: إنَّهُ لَرِزْقٌ رَزَقَهُ اللهُ خُبَيْبًا.
فَلَمَّا خَرَجُوا بِهِ مِنَ الحَرَمِ لِيَقْتُلُوهُ في الحِلِّ، قَالَ لَهُمْ خُبَيْبٌ: دَعُونِي أُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، فَتَرَكُوهُ، فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ فَقَالَ: واللهِ لَوْلا أنْ تَحْسَبُوا أنَّ مَا بِي جَزَعٌ لَزِدْتُ: اللَّهُمَّ أحْصِهِمْ عَدَدًا، وَاقْتُلهُمْ بِدَدًا، وَلا تُبْقِ مِنْهُمْ أَحَدًا. وقال:
فَلَسْتُ أُبَالِي حِيْنَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا ** عَلَى أيِّ جَنْبٍ كَانَ للهِ مَصْرَعِي

وَذَلِكَ في ذَاتِ الإلَهِ وإنْ يَشَأْ ** يُبَارِكْ عَلَى أوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ

وكان خُبَيبٌ هُوَ سَنَّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ قُتِلَ صَبْرًا الصَّلاَةَ. وأخْبَرَ- يعني: النبيّ صلى الله عليه وسلم- أصْحَابَهُ يَوْمَ أُصِيبُوا خَبَرَهُمْ، وَبَعَثَ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى عَاصِمِ بنِ ثَابتٍ حِيْنَ حُدِّثُوا أَنَّهُ قُتِلَ أن يُؤْتَوا بِشَيءٍ مِنْهُ يُعْرَفُ، وكَانَ قَتَلَ رَجُلًا مِنْ عُظَمائِهِمْ، فَبَعَثَ الله لِعَاصِمٍ مِثْلَ الظُّلَّةِ مِنَ الدَّبْرِ فَحَمَتْهُ مِنْ رُسُلِهِمْ، فَلَمْ يَقْدِروا أنْ يَقْطَعُوا مِنْهُ شَيْئًا. رواه البخاري.
قولُهُ: «الهَدْأَةُ»: مَوْضِعٌ، «والظُّلَّةُ»: السَّحَابُ. «والدَّبْرُ»: النَّحْلُ. وَقَوْلُهُ: «اقْتُلْهُمْ بِدَدًا» بِكَسْرِ الباءِ وفتحِهَا، فَمَنْ كَسَرَ قَالَ هُوَ جمع بِدَّةٍ بكسر الباء وهي النصيب ومعناه: اقْتُلْهُمْ حِصَصًا مُنْقَسِمَةً لِكُلِّ واحدٍ مِنْهُمْ نَصيبٌ، وَمَنْ فَتَحَ قَالَ معناهُ: مُتَفَرِّقِينَ في القَتْلِ واحدًا بَعْدَ واحِدٍ مِنَ التَّبْدِيد.
قال في «القاموس»: الدَّبَر، بالفتح: جماعة النحل والزنابير، ويكسر فيهما.
وفي هذا الحديث: كرامة ظاهرة لخبيب وعاصم بن ثابت رضي الله عنهما.
وفي الباب أحاديث كثيرةٌ صَحيحةٌ سَبَقَتْ في مَوَاضِعِها مِنْ هَذَا الكِتَابِ، مِنْهَا حديثُ الغُلامِ الَّذِي كَانَ يأتِي الرَّاهِبَ والسَّاحِرَ، ومنْها حَدِيثُ جُرَيْج، وحديثُ أصْحابِ الغَارِ الذين أطْبِقَتْ عَلَيْهِم الصَّخْرَةُ، وَحديثُ الرَّجُلِ الَّذِي سَمِعَ صَوْتًا في السَّحَابِ يَقُولُ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلاَنٍ، وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَالدلائِل في البابِ كثيرةٌ مشهُورةٌ، وباللهِ التَّوفيقِ.
قال النووي: اعلم أن مذهب أهل الحق إثبات كرامات الأولياء، وأنها واقعة موجودة مستمرة في الأعصار، ويدل عليه دلائل العقول وصرائح النقول.
1510- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قَالَ: مَا سَمِعْتُ عمر رضي الله عنه يقولُ لِشَيءٍ قَطُّ: إنِّي لأَظُنُّهُ كَذَا، إِلا كَانَ كَمَا يَظُنُّ. رواه البخاري.
قيل للإمام أحمد بن حنبل: ما بال الكرامات في زمن الصحابة قليلة بالنسبة لما يروى عمن بعدهم من الأولياء؟! فقال: أولئك كان إيمانهم قويًا فما احتاجوا إلى زيادة يقوي بها إيمانهم، وغيرهم ضعيف الإيمان في عصره فاحتاج إلى تقويته بإظهار الكرامة، والله أعلم.